الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسماً معرّفاً ثم كرّروه، فهو هو.وإذا نكَّروه ثم كرّروه فهو غيره.وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر؛ قاله ثعلب.وقال ابن عباس: «يقول الله تعالى خلقت عُسْراً واحدًا، وخلقت يُسْرين، ولن يغلِب عسر يسرين».وجاء في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه السورة أنه قال: «لن يغلِب عسر يسرين» وقال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حَجَر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين.وكتب أبو عبيدة بن الجرّاح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم، وما يُتخوّف منهم؛ فكتب إليه عمر رضي الله عنهما: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من مَنزِل شِدّة، يجعل الله بعده فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].وقال قوم منهم الجُرْجانِيُّ: هذا قول مدخول؛ لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفاً، إن مع الفارس سيفاً، أن يكون الفارس واحدًا والسيف اثنان.والصحيح أن يقال: إن الله بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم مُقِلاًّ مُخِفًّا، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالاً؛ فاغتم وظنّ أنهم كذبوه لفقره؛ فعزَّاه الله، وعدد نِعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: {فإنّ مع العسر يسرا} أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر؛ {فإن مع} ذلك {العسر يسرا} عاجلاً؛ أي في الدنيا.فأنجز له ما وعده؛ فلم يمت حتى فَتَح عليه الحجاز واليمن، ووسَّع ذات يده، حتى كان يعطى الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويُعِدّ لأهله قوت سنة.فهذا الفضل كله من أمر الدنيا؛ وإن كان خاصاً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء الله تعالى.ثم ابتدأ فضلاً آخراً من الآخرة وفيه تأسِية وتعزِية له صلى الله عليه وسلم، فقال مبتدئاً: {إِنَّ مَعَ العسر يسرا} فهو شيء آخر.والدليل على ابتدائه، تعرّيه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النَّسْق التي تدل على العطف.فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه؛ أي {إن مع العسر} في الدنيا للمؤمنين {يسرا} في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة.والذي في الخبر: «لن يغلب عسر يسرين» يعني العسر الواحد لن يغلبهما، وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا؛ فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء.أو يقال: {إن مع العسر} وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة {يسرا}، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عِز وشرف.{فَإِذَا فرغت فانصب (7) وَإِلَى رَبِّكَ فارغب (8)} فيه مسألتان:الأولى: قوله تعالى: {فَإِذَا فرغت} قال ابن عباس وقتادة: فإذا فرغت من صلاتك {فانصب} أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك.وقال ابن مسعود: إذا {فرغت} من الفرائض {فانصب} في قيام الليل.وقال الكلبيّ: إذا فرغت من تبليغ الرسالة {فانصب} أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات.وقال الحسن وقتادة أيضاً: إذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب لعبادة ربك.وعن مجاهد: {فإذا فرغت} من دنياك، {فانصب} في صلاتك.ونحوه عن الحسن.وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق.قال ابن العربي: ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية: {فانصب} بكسر الصاد، والهمْزُ من أوله، وقالوا: معناه: انصِب الإمام الذي تستخلفه.وهذا باطل في القراءة، باطل في المعنى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحداً.وقرأها بعض: الجهال {فانصب} بتشديد الباء، معناه: إذا فرغت من الجهاد، فجِدَّ في الرجوع إلى بلدك.وهذا باطل أيضاً قراءة، لمخالفة الإجماع، لكن معناه صحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومَه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نَهْمَته، فليعجل الرجوع إلى أهله وأشدّ الناس عذاباً وأسوأهم مباء ومآبا، من أخذ معنى صحيحاً، فركب عليه مِن قِبل نفسه قراءة أو حديثاً، فيكون كاذباً على الله، كاذباً على رسوله؛ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا».قال المهدوِيّ: وروي عن أبي جعفر المنصور: أنه قرأ: {ألم نشرحَ لك صدرك} [الشرح: 1] بفتح الحاء؛ وهو بعيد، وقد يؤوّل على تقدير النون الخفيفة، ثم أبدلت النون ألفاً في الوقف، ثم حُمِل الوصل على الوقف، ثم حذف الألف.وأنشد عليه: أراد: اضرِبْن.ورُوي عن أبي السَّمال {فإذا فرغت} بكسر الراء، وهي لغة فيه.وقرئ: {فرغِّب} أي فرغب الناس إلى ما عنده.الثانية: قال ابن العربيّ: روي عن شُريح أنه مر بقوم يلعبون يوم عِيد، فقال ما بهذا أمر الشارع.وفيه نظر، فإن الحَبَش كانوا يلعبون بالدّرق والحراب في المسجد يوم العيد، والنبيّ صلى الله عليه وسلم ينظر.ودخل أبو بكر في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيانِ؛ فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد» وليس يلزم الدُّؤوب على العمل، بل هو مكروه للخلق. اهـ.
وقول الآخر: وتسمية ذلك عسراً لأنه في نفسه وعند العامة كذلك لا بالنسبة إلى من أصابه من المحبين المستعذبين له والكل كما ترى ثم أنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله حجر فقال عليه الصلاة والسلام: «لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله تعالى: {إن مع العسر يسرا} الخ» ولفظ الطبراني «وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {فإن مع العسر يسرا}» وإرادة العهد اسلم من القيل والقال وكأن من اختاره اختاره لذلك مع الاستئناس له بسبب النزول لكن الذي يقتضيه الظواهر ومقاماتها الخطابية الاستغراق فإذا قيل به فلابد من التقييد بكون من أصابه العسر واثقاً بالله تعالى حسن الرجاء به عز وجل منقطعاً إليه سبحانه أو بنحو ذلك من القيود فتدبر والله تعالى الميسر لكل ما يتعسر.وقرأ ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى {العسر} و{يسرا} في الموضعين بضم السين.{فَإِذَا فرغت} أي من عبادة كتبليغ الوحي {فانصب} فاتعب في عبادة أخرى شكراً لما عددنا عليك من النعم السالفة ووعدناك من الآلاء الآنفة كأنه عز وجل لما عدد عليه ما عدد ووعده صلى الله عليه وسلم بما وعد بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة وإن لا يخلي وقتاً من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى.{وإلى رَبّكَ} وحده {فارغب} فاحرص بالسؤال ولا تسأل غيره تعالى فإنه القادر على الاسعاف لا غيره عز وجل وأخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس أنه قال أي إذا {فرغت} من لصلاة {فانصب} في الدعاء وروي نحوه عن الضحاك وقتادة وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أي إذا {فرغت} من الفرائض {فانصب} في قيام الليل وعن الحسن أي إذا {فرغت} من الغزو فاجتهد في العبادة وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم نحوه وأخرج ابن نصر وجماعة عن مجاهد أي إذا {فرغت} من أسباب نفسك وفي لقظ من دنياك فصل وفي رواية أخرى عنه نحو ما روي عن ابن عباس والأنسب حمل الآية على ما تقدم وأما قول ابن عباس ومن معه فهو تخصيص لبعض العبادات فراغاً وشغلاً اما مثالاً لا أن اللفظ خاص وهو الأظهر وكذا يقال فيما روي عن ابن مسعود واما لأن الصلاة أم العبادات البدنية والدعاء مخ العبادة فهما هما وقول الحسن فيه ما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وهو قريب إلا أنه قيل عليه أن السورة مكية والأمر بالجهاد بعد الهجرة ولعله يقول بمدنيتها أو مدنية هذه الآية أو أنها مما تأخر حكمه عن نزوله كآيات أخر وقول مجاهد نظر فيه إلى أن الفراغ أكثر ما يستعمل في الخلو عن الأشغال الدنيوية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «اغتنم فراغك قبل شغلك» وهو أضعف الأقوال لبعده عما يقتضيه السياق وتؤذن به الفاء وقال عصام الدين لا نسب ان يراد {فإذا فرغت} من يسر {فانصب} بعسر آخر طلبا لليسرين فإذا كنت كذلك فكن راغباً إلى ربك يعني لا تتحمل عسر الدنيا طمعاً في يسرين فيها بل تحمل عسر طلب الرب وقربه جل شأنه لليسرين انتهى.ولعمري أنه خلاف ما يفهمه من لا سقم في ذهنه من اللفظ.وأشعرت الآية بأن اللائق بحال العبد أن يستغرق أوقاته بالعبادة أو بأن يفرغ إلى العبادة بعد أن يفرغ من أمور دنياه على ما سمعت من قول مجاهد فيها وذكروا ان قعود الرجل فارغاً من غير شغل أو استغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة.وعن عمر رضي الله تعالى عنه أني لأكره أن أرى أحدكم فارغاً سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته.وروي أن شريكاً مر برجلين يصطرعان فقال ما بهدا أمر الفارغ.وقرأ أبو السمال {فرغت} بكسر الراء وهي لغة قال الزمخشري ليست بفصيحة.وقرأ قوم {فانصب} بشد الباء مفتوحة من الانصباب والمراد فتوجه إلى عبادة أخرى كل التوجه.ونسب إلى بعض الإمامية انه قرأ {فانصب} بكسر الصاد فقيل أي {فإذا فرغت} من النبوة {فانصب} عليا للإمامة وليس في الآية دليل على خصوصية المفعول فللسنى أن يقدره أبا بكر رضي الله تعالى عنه فإن احتج الإمامي بما وقع في غدير خم منع السني دلالته على ما ثبت عنده على النصب وصحته على ما يرويه الإمامي واحتج لما قدره بقوله صلى الله عليه وسلم: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وقال إنه أوفق بإذا فرغت لما أنه صدر منه عليه الصلاة والسلام في مرض وفاته قيل وفاته صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان في الغدير فإنه لا يظهر أن زمانه زمان فراغ من النبوة ظهور كون زمان الأمر كذلك وإن رجع وقال المراد {فإذا فرغت} من الحج {فانصب} علياً ورد عليه أمر مكية السورة مع ما لا يخفى.وقال في الكشاف لو صح ذلك للرافضي لصح للناصبي أن يقرأ هكذا ويجعله أمراً بالنصب الذي هو بغض على كرم الله تعالى وجهه وعداوته وفيه نظر ومن الناس من قدر المفعول خليفة والأمر فيه هين وقال ابن عطية أن هذه القراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم.وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة {فرغب} أمر من رغب بشد الغين أي فرغب الناس إلى طلب ما عنده عز وجل. اهـ.
|